بطل قصتنا طلب أن نكتبها عنه بهذا الإسم الثلاثي وهو يحدثني عن صموده أمام الحزن والدمار عن كل معاناته منذ اندلاع الحرب في منتصف أبريل من العام الماضي . هكذا حكي حسين عبد الدافع مختار : عن حياته التي كانت بسيطة ومليئة بالأمل ، وعن سوق أم درمان الذي كان يعتبره مركزًا لنجاحه ، حيث كان يبيع المواد الغذائية ويترزق منها مع أسرته الصغيرة . كانت تلك الأيام أيامًا هادئة ، ممتلئة بالأمل في المستقبل . كان حلمه أن يملك منزلًا صغيرًا لأطفاله حلمًا بسيطًا ليعيشوا في أمان .

ثم جاء ذلك اليوم الذي سلبه كل شيء . كان حسين يروي لي التفاصيل بتأثر شديد وحسري ، كأن الألم يعود إلى قلبه مجددًا . في الأيام الأولى من اندلاع الحرب ، بدأ القصف يقترب أكثر فأكثر . لم يكن أحد منا يتوقع أن الحرب ستصل إلى قلب العاصمة ، إلى سوق أم درمان الذي كان يوما ما مكانًا يعج بالحياة والناس . كان حسين يقف في مكانه بين الزبائن ، يبيع ويشتري ، حين سمع دوي انفجار ضخم . ارتجت الأرض تحت قدميه ، فكل شيء كان يهتز بشكل مفاجئ. ثم جاء الصوت : قذيفة دمرت المكان الذي كان يقف فيه ، محطمة السوق ، ومدمرة مصدر رزقه الوحيد .

“اللحظة ديك ما بنساها أبدًا” قال حسين وهو ينظر بعيدًا ، وكأن صورة المكان المدمَّر لا تزال حية في ذهنه . “كل شيء ضاع في لحظة يا ابراهيم . محلي التجاري ، الأموال اللي كنت مدخرها ، حتى ذكرياتي مع الزبائن والرفاق ، كلها تحولت إلى رماد.” كانت نبراته مليئة بالحزن ، لكنني شعرت بشيء آخر في نفسه ، كان ذلك الصمود والارادة والقوة التي لا تنكسر ، و المأساة والخذلان في من كانوا يتصارعون علي السلطة لأجل أنفسهم .

كان يعود في كل مرة إلى ذاته ، يحاول أن يخبئ الألم في قلبه ليحمي أسرته ، لكنه كان يعلم أنهم جميعًا يشعرون بما حدث . ورغم أنه لم يكن يريد أن يثير القلق في قلب زوجته وأطفاله ، إلا أنهم كانوا يعرفون جيدًا أن كارثة قد حلت بهم . كانوا يعلمون أن حياتهم قد تغيَّرت إلى الأبد .

“كنت أرجع إلى البيت وأنا غير مصدق” قال حسين وهو يكمل حديثه، “أشوف أولادي وزوجتي وكلهم في انتظار أخبار عن السوق . وكان أصعب شيء إني ما أقدر أخبرهم بالحقيقة . ما أقدر أقول ليهم إننا فقدنا كل شيء . لكن هم كانوا يحسون بالأمر ، كانوا يعرفون” كانت تلك اللحظات التي مر بها حسين مليئة بالتناقضات ، بين الأمل والألم ، بين الرغبة في الكتمان والصراع الداخلي الذي كان يعيشه في اختلاج .

ومع مرور الأيام، كانت الحرب تزداد ضراوة. كان القصف يستمر ، والمليشيات تعيث فسادًا في المدينة . لم يكن أمام حسين وأسرته سوى الهروب. هربوا من مكان إلى آخر، حتى استقروا في بيت إيجار صغير في الحارة 17 . كانت الغرفة التي استأجروها ضيقة ، لا تكاد تتسع لأسرة مكونة من ستة أفراد . كان ذلك البيت البسيط يذكره دائمًا بخيمة ، رغم أنه لم يكن كذلك .

“في البداية، كان الألم أكبر من أي شيء، لكن بعد فترة، بدأت أقول لنفسي لا بد لنا أن نصمد . الحرب دي مهما طالت ما بتكسر الناس. وطننا حي ، ولو كان الزمن صعب ، لازم نكون أقوياء.” كانت عينا حسين مليئة بالدموع ، ولكن صوته كان ثابتًا ، وكأن الزمن قد توقَّف عند تلك اللحظة التي فقد فيها كل شيء، لكنه كان يتشبث بما بقي له : العائلة والوطن والوفاء لهذا المكان الذي لطالما أحبه .

حتى عندما كانت زوجته تنظر له في عينيه بحزن ، وتبتسم له ابتسامة حزينة بينما تقوم بتوزيع القليل من الطعام على الأطفال كان هو يسحب من داخله القوة ليقول لهم: “الجيش في قلبنا الجيش سينتصر ، البلد دي ما بتنهار ، إحنا شعب صامد، والأمن حيعود” كان يكرر هذه الكلمات كل يوم وكأنها العكاز الذي يستند عليه ليقف من جديد رغم كل التحديات .

وفي وسط المعاناة كان الصمود يخرج من أعماقه ويرفض الاستسلام . كلما نظر إلى أطفاله شعر أن الحياة ستعود مهما طال الزمن “حياة جديدة بانتظارنا” كان يرددها رغم أنه كان يعلم أن الطريق طويل ، وأنهم فقدوا كل شيء ، لكنه كان يؤمن أن هذا الوطن الذي سلبهم كل شيء سيمنحهم في النهاية ما يستحقونه : الأمل والأمان والحرية .

لكن حسين لم يكن يعلم أن اليوم الذي يحكي فيه هذه الكلمات سيكون في ذكرى اليوم العالمي لحقوق الإنسان ، في وقت تُرتكب فيه مجزرة جديدة بحق المدنيين في محلية كرري ، حيث تعرضت حافلة مواصلات عامة لقصف مدفعي في سوق صابرين الذي يقع جوار بيته أدى إلى استشهاد 65 من المواطنين الأبرياء، معظمهم من أهل المنطقة فاجعة حسين أن أحد الذين فقدوا أرواحهم في ذلك اليوم كان خال أولاده الذي كان متنقلا باحثا عن” حقن الأنسولين ” ، كان حسين يشعر أن المأساة التي يعيشها قد تضاعفت وأن القهر الذي يواجه أكبر من الاحتمال .

كان يحدثني بأسي وهو يتصفح تقرير نشرته “خرطوم نيوز ” ورد أن مليشيا الدعم السريع استهدفت المواطنين في محلية كرري ، مما أسفر عن مقتل أكثر من 65 شخصًا وأكثر من مئتي جريح . تكدست المستشفيات بالجثث والمصابين. وقف والي الخرطوم أحمد عثمان حمزة مع لجنة الأمن في الولاية، يتفقد مواقع القصف في موقف حافلات الحار 17 حيث تحولت الحافلة إلى كومة من الأشلاء ، وقتل جميع ركابها الذين بلغ عددهم 22 شخصًا . وكان القصف أيضًا قد طال جوار السوق واحيا سكنية ، أماكن معلوم أنها مكتظة بالمواطنين.

استنكر الوالي هذه المجزرة وأدان استهداف المدنيين الأبرياء ، مطالبًا المجتمع الدولي والمنظمات الإنسانية بضرورة إدانة هذه الانتهاكات ضد المدنيين الذين أصبحوا ضحايا لنهج المليشيا في القتل والدمار . كما أدانت المجزرة عدد من الاحزاب الوطنية . حتي أولائك الذين يناصرون المليشيا ويدعمونها سياسياً وإعلامياً .

وفي مستشفى النو حيث تواجد عدد كبير من الجرحى كان حسين يشاهد الأطباء وهم يبذلون أقصى جهدهم لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من المصابين ، لكنه كان يعلم أن هذا الصراع سيستمر ، وأن الناس سيواصلون دفع الثمن . لكن ذلك لم يثني عزيمته . كان يقف، يراقب المشهد، ويقول: “لكننا سنصمد، ونحارب لأجل وطننا.”

هكذا تحدث حسين عبد الدافع عن مأساته وهذا هو وجه الحقيقة ، وكأنما كانت الكلمات التي يروي بها قصته ، هي صرخة في وجه الظلم وانتصارًا للوفاء . لا يهم كم مرَّ من الوقت ولا عدد الجروح التي أصابته ، فمايزال قلبه ينبض بالحب لهذا الوطن، الذي مهما كانت الظروف قاسية سيظل قويًا يتحدى الصعاب .
دمتم بخير وعافية .
الخميس 12 ديسمبر 2024 [email protected]

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *