زئير الحقيقة
”تصريحات معظم السياسيين في أزمنة الحروب مثل أمتعة ركاب في غاية الخفة، يسهل جداً الإلقاء بها من النوافذ عند محطات الوصول، لذا تبقى المنعطفات الوطنية الكُبرى أقصر الطرق للوقوف على حقيقتها”.. الكاتبة..!بعض السودانيين الذين ظلوا ينشدون العيش في عالم مثالي، تحت ظل سلطة مثالية وبين ظهراني مجتمع مثالي، كانوا يصورون بيئة التعامل الاجتماعي والعمل العام في السودان قبل مجيء حكومة الإنقاذ وكأنها كانت مدينة فاضلة..! وهذا ليس صحيحاً – ليس لأن فترة حكم الإنقاذ لم تكن معيبةً بما يكفي، ولكن – لأن هنالك دوماً مساحة رمادية في سلوك الشعوب والحكومات على إطلاقها، وهي مساحة ضاجة بالنجاحات والإخفاقات والتعقيدات، وحافلة أيضاً بالنبل والخِسَّة والفشل والوفاء والتناقض.. إلخ.. وعليه فلا يمكن اختزال المواقف والأحداث في خيرٍ صرف أو شرٍّ محض ..!ذات القاعدة كانت تنطبق – بالقدر اللازم من النسبة والتناسب – على حكم البعض على فترة الإنقاذ نفسها، وكانت أيضاً تنطبق وفقاً لذلك على فترة الحكومة الانتقالية التي جاءت بعد الثورة، ثم أطاح بها انقلاب تفاقمت بعده مظاهر العداء السياسي والعسكري الذي تطور فيما بعد إلى اندلاع هذه الحرب..!وقد لاحظتُ أن هذا النوع من الإيغال في الشجب لأفعال ومواقف، وأهداف ومآرب، وعلل وإشكالات، ومزالق ومهالك أي حكومة أو التنديد بطبيعة أي أداء مؤسسي – والذي يكاد يقف أحيانا على تخوم الهجس والهوس – كان يكثر في الغالب عند المغتربين والمهاجرين ..!ليس لشيء سوى قلة مواكبتهم للراهن الاجتماعي والسياسي عن كثب ربما، أو لكثرة عاطفتهم الوطنية الجياشة. بينما كان يفكر الذين يتمسكون ببعض الموضوعية – داخل السودان – بطريقةٍ أكثر واقعية لا يمكن الحكم على أسبابها بعيداً عن طبيعة انصهارهم في الواقع العيش..! وقد بدا لي أن غياب الحياد المنهجي وانتفاء الورع العلمي عن تحليل راهن هذه الحرب والحكم على مآلاتها والانشغال بالانتقام والشخصنة – عوضاً عن تقديم المكاسب الوطنية الأَوْلى والمصالح الشعبية العُليا على كل ما عداها – قد صار لسان حال معظم السياسيين والإعلاميين والمحللين السودانيين النازحين في مختلف الولايات الآمنة، واللاجئين في مختلف دول الجوار، أو غيرها من الدول التي يمكن اللجوء إليها..!وصار البعض الآخر يرقبون أداء الجيش في بعض المعارك وهم قابعون تحت أشجار الظن، ويتعاطون مع معاناة المواطنين في مناطق اشتعال هذه الحرب بسيكولوجية الجماهير التي تُغلِّب جحافل العواطف وطرائق التفكير الرغائبي على الواجب الإنساني الذي يقتضي دعم أي حلول تساعد على إنقاذ ما يمكن إنقاذه من أرواح بريئة، وتقديم ما يمكن تقديمه لها من أساسيات الحياة التي تحتل صدارة الأولويات الإنسانية في هرم ماسلو..!بين السجالات العاطفية من أصقاع اللجوء وعبر فضاءات الأسافير، والحوارات المبذولة للاستهلاك المحلي كما يفعل بعض النازحين في المناطق الآمنة، تتشظى الإجابة الواجبة على السؤال الكبير..!إلى متى تتخبط النخب السياسية السودانية في تفعيل ما تنادي به وتدعو إليه، وإلى متى ترتبط مصائر السودانيين بطموحات السياسيين في وقت السلم وأطماعهم في زمن الحرب؟. إلى من تُسلم الفئات السياسية – بمختلف مواقفها على جانبي هذه الحرب – قيادها، وإلى أين تقودنا..!الدعوة إلى التأمل في سعة وجوه الاحتمال، واتساع المسافة الفاصلة، ورحابة الطريق الثالث – بين مُنتهى السِّيولة ومُنتهى اليَباس – هي حجر زاوية هذا المقال. فهل يا تُرى من مُذَّكِر ..!