مرتضى جلال الدين:
في ظل الحرب التي يعيشها السودان، وانقسام المجتمع سياسياً واجتماعياً، تبرز الحاجة الملحة لفرض سيطرة الجيش على مقاليد الحكم، ليس باعتباره خيارًا أيديولوجيًا أو تسلطًا عسكريًا، بل كضرورة وجودية للحفاظ على الدولة ووحدتها. فالمتغيرات الراهنة تؤكد أن أي محاولة لتشكيل حكومة مدنية في هذا الوقت ستكون قفزة في الفراغ، بل قد تجر البلاد نحو مزيد من الفوضى والانهيار.
القبيلة.. اللاعب السياسي الأقوى
لا يمكن إنكار أن النسيج الاجتماعي السوداني يعاني من تفتت خطير، حيث لم تنجح أي قوى سياسية في بناء هوية وطنية جامعة تتجاوز الولاءات القبلية. وقد أثبتت الحرب الحالية أن القبيلة لا تزال أقوى من الحزب السياسي، حيث تساقط العديد من القيادات السياسية وانحازوا إلى دعم قوات التمرد، وهو ما برز بوضوح في إعلان تجمع القبائل العربية في دارفور مساندتهم لقوات الدعم السريع بقيادة آل دقلو، في بيانات رسمية أكدت التوجه العرقي لهذا التحالف.
هذه الاصطفافات لم تكن مجرد موقف سياسي، بل كانت تعبيرًا عن أزمة بنيوية في النظام السياسي السوداني، حيث ما زالت القبيلة هي المعيار الأول في الولاءات والتحالفات، مما يجعل من أي محاولة لبناء سلطة مدنية متوازنة في الوقت الراهن مجرد وهم سياسي. فإذا لم تتم إعادة ضبط المشهد العسكري والأمني، فإن السودان سيبقى أسيرًا لهذه الولاءات الضيقة، ما يعني إعادة إنتاج الصراعات القبلية بصورة أكثر عنفًا وخطورة.
الأزمة العسكرية وتعقيداتها السياسية
لا يمكن الحديث عن مرحلة انتقالية سياسية دون معالجة الوضع العسكري أولاً. فالقوات المشتركة الآن ليست مجرد قوة عسكرية، بل هي تحالف اجتماعي وسياسي يعكس موازين القوى بين المكونات المختلفة. وهذا الثقل العسكري والجهوي يجعل من المستحيل إجراء انتخابات نزيهة أو تأسيس سلطة مدنية متفق عليها، لأن تداخل المصالح الأمنية والسياسية سيجعل من أي استحقاق انتخابي مجرد مسرحية هزلية لن تعبر عن الإرادة الحقيقية للشعب السوداني.
إضافة إلى ذلك، فإن القوات المسلحة تواجه معركة كبرى لتحرير دارفور من سيطرة قوات التمرد، ما يعني أن البلاد في حالة حرب فعلية، ومن غير المنطقي في ظل هذه الظروف التفكير في إنشاء مؤسسات سياسية جديدة، لأن ذلك سيكون بمثابة قفز فوق الواقع. فكيف يمكن لحكومة مدنية أن تعمل في ظل غياب الأمن، ووجود مناطق بأكملها خارج سيطرة الدولة؟ هذا يعني ببساطة أن أي سلطة مدنية ستواجه أزمة شرعية منذ اليوم الأول، لأنها ستكون عاجزة عن إدارة البلاد بشكل فعّال.
ضرورة تشكيل حكومة حرب عسكرية
الحل المنطقي في هذه المرحلة يتمثل في تشكيل حكومة حرب عسكرية بلا نزاعات أو محاصصات حزبية، تكون مهمتها الأساسية القضاء على التمرد وتحرير البلاد من الاحتلال الداخلي والخارجي. فالواقع يؤكد أن الدعم السريع ليس مجرد ميليشيا متمردة، بل هو أداة استعمارية جديدة تهدف إلى تفكيك السودان وتحويله إلى دويلات صغيرة.
وهذا يعني أن أي محاولة لفرض حكومة مدنية الآن لن تكون سوى خطوة استباقية لإضعاف الجيش وإرباك المشهد السياسي، خاصة أن المجتمع الدولي يلعب دورًا مشبوهًا في هذه الحرب، حيث لم يبد أي دعم حقيقي للقوات المسلحة، بل على العكس، ظل يراهن على استمرار الفوضى بهدف فرض حلول سياسية تخدم مصالحه.
غياب البديل المدني القوي
من أهم الإشكاليات التي تواجه فكرة تشكيل حكومة مدنية في الوقت الراهن هو عدم وجود شخصيات سياسية تحظى بقبول وطني واسع، فضلاً عن عدم وجود مؤسسات مدنية قادرة على إدارة المرحلة الانتقالية. فالأحزاب السياسية التي كانت جزءًا من المشهد قبل الحرب تعاني من انقسامات حادة، ولا تمتلك نفوذًا حقيقيًا على الأرض، ما يعني أن أي حكومة مدنية سيتم تشكيلها لن تكون سوى حكومة صورية بلا سلطة فعلية، الأمر الذي سيؤدي إلى ازدواجية القرار السياسي وخلق مزيد من الفوضى.
إضافة إلى ذلك، فإن الدمار الذي لحق بالعاصمة الخرطوم وبنية الدولة يجعل من الصعب إعادة بناء مؤسسات الحكم المدني في الوقت الراهن، ما يعزز منطق تأجيل أي تجربة سياسية إلى حين استعادة الاستقرار الأمني والعسكري.
خطر التحالفات الإقليمية المشبوهة
قبل أيام قليلة، تم توقيع ميثاق سياسي وتحالف بين الحركات المسلحة بقيادة عبد العزيز الحلو وقوات الدعم السريع وتقزم، برعاية إقليمية ودعم دولي واضح، وهو ما يعكس حجم التآمر الخارجي ضد السودان. فإذا تم تشكيل حكومة مدنية الآن، فإنها ستكون رهينة لهذه القوى الدولية والإقليمية، وستتحول إلى مجرد أداة بيد المجتمع الدولي لفرض أجنداته.
وهذا الخطر لا يقتصر على الجوانب السياسية فقط، بل سيمتد إلى الأمن القومي والاقتصاد، حيث ستجد البلاد نفسها في حالة من العجز التام عن اتخاذ قرارات سيادية، ما سيؤدي إلى انهيار الدولة بالكامل. وبالتالي، فإن أي تساهل في مواجهة هذا التحالف سيكون بمثابة تسليم السودان لقوى أجنبية تسعى إلى تقسيمه وإضعافه.
أهمية استمرار قيادة البرهان
في ظل هذه المعطيات، يصبح استمرار الفريق أول عبد الفتاح البرهان في قيادة البلاد ضرورة استراتيجية، ليس فقط للحفاظ على وحدة القوات المسلحة، ولكن أيضًا لضمان استقرار الوضع العسكري واستكمال عملية تحرير السودان. فالمرحلة القادمة تحتاج إلى قيادة عسكرية قوية، لديها القدرة على اتخاذ قرارات حاسمة بعيدًا عن الحسابات السياسية الضيقة.
البرهان نجح خلال الفترة الماضية في الحفاظ على تماسك الجيش رغم محاولات الاختراق والتشتيت، واستطاع أن يواجه التحديات الداخلية والخارجية بصلابة، ما يجعله الخيار الأمثل لقيادة البلاد في هذه المرحلة. وأي محاولة لإبعاده عن المشهد الآن ستؤدي إلى حالة من الفراغ السياسي والعسكري، وهو ما قد تستغله قوى التمرد والمجتمع الدولي لفرض أجنداتها.
خلاصة القول
إن المرحلة التي يمر بها السودان اليوم لا تحتمل المغامرات السياسية أو الحلول الهشة، بل تحتاج إلى قرارات قوية تضمن استعادة الدولة من براثن الفوضى. ولذلك، فإن إحكام سيطرة الجيش على السلطة وإعلان حكومة حرب عسكرية لمدة 10 سنوات هو الحل الأمثل لإخراج البلاد من هذا النفق المظلم.
فالسودان الآن أمام خيارين: إما تعزيز سلطة الدولة عبر الجيش والقوى الأمنية، أو ترك البلاد للفوضى والصراعات القبلية التي ستؤدي إلى انهيارها. والمسؤولية التاريخية تحتم على الجميع اتخاذ القرار الصائب، حتى لو كان صعبًا، من أجل إنقاذ السودان وحماية مستقبله.